القواعد الفقهية – الواقع والتطلعات

 بسم الله الرحمن الرحيم

               القواعد الفقهية – الواقع والتطلعات


   فضيلة الشيخ الدكتور/ يعقوب بن عبدالوهاب الباحسين

   الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده :

   فإنّ الموضوع الذي سنتحدّث عنه يتعلّق بأمر بالغ الأهميّة ، ولكنّه – للأسف- لم يحظ بالاهتمام إلاّ في الأعوام المتأخرة ، ذلك أنّ الكثير من الجامعات
الإسلامية لم يكن بين برامجها دراسة القواعد الفقهية . ومن العجب أنّ هذه المادة حظيت في النصف الأوّل من هذا القرن باهتمام كليّات الحقوق والقانون
أكثر مما حظيت به في الجامعات الإسلامية ، وذلك يعود إلى أنّ مجلة الأحكام العدلية الصادرة في 26 شعبان 1293هـ ، والتي كانت تمثّل القوانين
المدنية في الخلافة العثمانيّة ، والبلاد التي طُبّقت بها اشتملت في مقدّمتها على 100 مئة مادة ، هي مجموعة من القوانين الفقهيّة . ولكنّ هذه الدراسة
اختفت في كليّات هذه البلدان ، حين أُلغي العمل بالمجلة المذكورة ، واستعيض عنها بالقوانين المدنية الوضعيّة . وربّما بقيت تدرس على وجه مبسّط في
بعض المدارس الدينيّة الخاصّة .

   وفي السنوات الأخيرة عادت القواعد الفقهية لتأخذ محلّها في بعض الجامعات الإسلامية، وأصبحت في ضمن مقرّراتها ، سواء كان ذلك في المرحلة
الجامعيّة ، أو في مرحلة الدراسات العليا . كما أنّ جمعها ، وتتّبع مظانّها أصبح مطمحاً وهدفاً لمجمع الفقه الإسلامي في جدّة ، ولبعض المؤسّسات
الاقتصادّية ، ولطائفَة من الباحثين . ولكنّ هذه الاهتمامات انصّبت على الجانب النظري من هذه القواعد، وعلى حصر ما هو موجود بالاستقراء . ولم
أجد عناية بالجانب التطبيقي فيها ، غَيْرَ تتبّع الجزئيات الموجودة في كتب الفقه وحصرها . ولكنّه توجد دراسات محددة أفردت بعض هذه القواعد
بالدراسة لكنّ تطبيقاتها كانت غير فاعلة ، وإنما كانت مجرّد تنظيم وترتيب لما هو مسطور في كتب الفقه أو القواعد من الأحكام الجزئية.

   ولكن ما هي هذه القواعـد ؟

   لا أريد أن أتعّرض إلى التعريفات التي قيلت في تعريف القواعد الفقهيّة سواء كان ذلك بمعناها العام ، أو بمعناها الخاصّ ، ممّا هو مثار مناقشات
واختلافات بين العلماء . ولكنّي أبسّط هذه المسألة . وأقول إنّ القواعد الفقهيّة هي أحكام عامّة أو قوانين تحكم الفروع الفقهيّة التي يتحقّق فيها مناط
القاعدة، أو سببها ، ممّا هو من القضايا الكليّة ، كقواعد :

   1- الأمور بمقاصدها                     2- واليقين لا يزول بالشك
3- والمشقّة تجلب التيسير                 4- والضرر يزال
5- ولا ضرر ولا ضرار                 6- والعادة محكّمة
7- والضرورات تبيح المحظورات  … وغيرها

ويلحق بها ما هو أضيق نطاقاً منها ، مما يتعلّق بمجالات خاصّة أو محدودة ، والتي أطلق عليها بعضهم مصطلح القواعد الخاصة ، كالضوابط
والأصول والكليّات .

   وقد بذل علماء السلف جهوداً ضخمة ونافعة في استخلاص هذه القواعد ، وفي تتبع جزئياتها في أبواب الفقه المختلفة ، تم تصنيفها وترتيبها ، وتعليلِها،
وبيانِ سندها في الدليل الشرعي ، أو العقلي ، إن وجد وفي أحيان قليلة وضع ضوابط وشروطٍ لها ، وبيان ما خرج ممّا سمّوه مستثنيات القاعدة .
وهي جهود تتناسب مع ما للقواعد الفقهيّة من الأهميّة ، والفوائد الجمّة التي قد يختلف بعضها باختلاف الاختصاصات والثقافات ، وقد أتينا على طائفة
منها في بحوثنا عن القواعد ، ولكني أورد هنا فائدتين تترتّب عليها قضايا عملية كثيرة ، وهما :

   1- إنّ فهم القواعد وضبطها بما لها من أركان وشروط يُغْني من فَهِمَهَا ، وأَدرك مراميها عن حفظ كثير من الجزئيات أو الفروع . ونحن نعلم أنّ منهج
عرض الفقه الإسلامي فيه كدٌّ للذهن ، وإتعابٌ للحافظة ، وكان في كثير منه لا يُمَهِّد لأبواب تلك الجزئيات بالقواعد والمبادئ الجامعة لها . وعلى
سبيل المثال اذكر ضابطاً فقهياً تعلّق بالبيع وغيره من العقود ، يبيّن كيف أنه عند فهم وإدراك معناه ، يغنينا عن عشرات ، بل مئات من الفروع
الفقهيّة . يرى محمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة – رحمه الله – أنّه إذا اجتمعت الإشارة والتسمية في العقد، فاختلفت التسمية عن المشار إليه ،
فإنّنا ننظر إلى المشار إليه ، فإن كان من جنس المسمّى فإنّ العقد يتعلّق بالمشار إليه ، وإن كان من خلاف جنسه يتعلّق العقد بالمسمّى . وله تدليل
وتوجيه على هذا الضابط .

   والمقصود بما كان من جنس الشيء هو أن تكون الأغراض المقصودة فيهما واحدة ، وأمّا إذا اختلفت الأغراض المقصودة ، فإنّ الجنس يكون مختلفاً .
وقد طبّقت كتب الفقه الحنفي ذلك على طائفة من الموضوعات ، كبيع الجارية أو الغلام ، والكبش أو النعجة . وعلى هذا الأصل يمكننا تخريج كثير من المسائل، فإذا باعه قارورة على أنّها خلٌّ فإذا هي دبس ، أو فصّاً على أنّه ياقوت فإذا هو زجاج ، أو جهازاً على أنه آلة تصوير فإذا هو راديو ، أو
باعه هذه المكنسة الكهربائية ، فإذا هي جهاز لتقطيع الخضار وعصر الفواكه ، بطل البيع في جميع هذه الصور، لاختلاف الجنس . أمّا إذا باعه هذا
الثوب المصري فإذا هو مغربي ، أو هذا الكنب الأمريكي فإذا هو إيطالي ، أو الحذاء الإيطالي فإذا  هو إنكليزي ، فإنّ البيع لا يبطل ؛ لأنّ هذه
الأشياء جميعها تُعَدُ جنساً واحداً ، لأنّ المقصود من المشار إليه والمسمّى واحد ، ولكن يختلّف الوصف المرغوب فيه ، فإنّ المشتري يكون في الخيار،
بين قبوله لهذا البيع ورفضه له. وأظنً أنّ فهم هذا الأصل أو  الضابط عند محمد بن الحسن يغنينا من حفظ الفروع الكثيرة ، بل ويمكّننا من التعرّف
على أحكام ما يجدّ من القضايا التي هي من هذا القبيل.

    2- والفائدة الثانية ذات صلة بالفائدة المتقدّمة ، ذلك أنّ معرفة القواعد الفقهية تُمَكِّن غير المتخصّصين في علوم الشريعة كرجال القانون والاقتصاد
والإداريين وغيرهم من الإطلاع على الفقه بروحه ومضمونه ، بأيسر طريق. وأيسرُ الطرقِ هو معرفة الأحكام الكثيرة والمتفرّقة من خلال قواعدها
أو ضوابطها الفقهيّة . فمثلاً يمكن للاقتصادي أو التاجر أن يعرف من قاعدة ( جهالة المعقود عليه تفسد العقد ) طائفة من المعاملات الفاسدة ، من بيوع
أو إجارات أو مقاولات ، أو تجهيزات أو غيرها.فمثل هذه القاعدة يدخل فيها بيع الحَبَلة ، وبيع ما لم يُخَْلَق ، وبيع الثمار قبل أن تزهر ، وبيع
الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع الحصاة ، والمعاومة ، وبيعتين في بيعة ، وبيع السنبل قبل أن يبيضّ، أو العنب قبل أن يسوَدّ ، وبيع المضامين وبيع الملاقج . وقد يكون بعض هذه الأنواع غير موجود في عصرنا ، ولكن يمكن لمن أدرك معنى القاعدة ، أن يطبّقها على كلّ عقد فيه جهالة تفضي إلى
المنازعة ، من معاملات هذا الزمان. وربّما كان فهم بعضهم لتلك المعاملات فهماً إجمالياً لا تفصيلياً ، ولكنّه، مع ذلك نافع ومفيد يعطي المدرك

للقاعدة مقاصد الشارع وغاياته من هذا المنع. ولأهميّة هذه القواعد وفائدتها جعلها بعض العلماء وجهاً آخر من وجوه أصول الشريعة ، يضاف إلى
أصول الفقه.

    ولهذا فإنّ الجهود التي بذلت في جمع القواعد الفقهيّة وترتيبها ، هي جهود عظيمة وكبيرة ، وهي مرحلة ضرورية تُعَدّ من الخطوات الهامّة بشأن
القواعد الفقهية . لكنّنا الآن في حاجة إلى إضافات جديدة ، تَتَجَدَّدُ فيها أركان تلك القواعد وشروطها وشروط تطبيقها . وإلى أن تُنْشأ فيها قواعد جديدة
تغطي  – إن صحّ التعبير – ما لم يدخل في أُطُر القواعد الخاصَة ، التي تحكم أبواباً ، أو قضايا محدودة.

ففي المجال الأوّل المتعلّق بضبط القواعد وتحديد شروطها وأركانها ، وشروط تطبيقها ، نجد أنّ الأجيال التالية لم تفعل شيئاً في هذا الشأن ، وإنما
كانت تُرَدِّد ما هو موجود في كتب القواعد ، وتشرحه في أحيان، أو تنظمه شعراً، أو تختصره في أحيان أخرى.

    وفي العصر الحديث ظهرت دراسات أفردت بعض القواعد بالبحث. ووسّعت فيها الكلام ، ولكنّ ذلك كان في مجال توسيع الكلام عن الفروع الفقهية
المذكورة في كتب القواعد ، بذكر آراءِ العلماء فيها ، واستدلالاتهم ، وترجيح ما يرونه بهذا الشأن. ولم يتكلّموا عن أركان أو شروط هذه القواعد ([1])
إلاّ في الحالات التي وردت في كلام العلماء المتقدّمين ، وكان ذلك في قواعد هي أقلّ من عدد أصابع اليد الواحدة ، أو لا تجد شيئاً من ذلك إلاّ في
قاعدتي (العادة محكّمة) و(الضرورات تبيح المحظورات) والمشقة تجلب التيسير، وهي شروط محدودة، أو محصورة في مجال ضيّق. فمثل هذه القاعدة ،
أي قاعدة ( المشقة تجلب التيسير ) ، ما لم تضبط فيه المشقة ، أو أسبابها ، فإنّه يعسر الاستفادة منها . ونحن نعلم أنّه ورد عن الشارع الضبط ببعض
الأسباب ، وأبدى بعض العلماء المتقدّمين ، كابن عبدالسلام – رحمه الله – جهوداً طيّبة في ضبط المشقة فيما ليس لها سبب محدّد من قبل الشارع ، ولم
أجد أحداً حاول ذلك بعد ابن عبد السلام، وإنما كانوا يردّدون مقولته ، دون أن يضيفوا عليها شيئاً ، مع العلم أنّ هناك أسباباً غير واضحة ومبهمة ،
كسبب العسر وعموم البلوى . فما هو ضابط العسر وعموم البلوى الذي يقتضي التيسير ؟ أنّنا لا نجد سوى فروع فقهيّة  جرى فيها التيسير والترخيص
يقولون أنّ سبب التيسير فيها هو العسر وعموم البلوى ، ولكنّهم لم يقدّموا لنا ضابطاً يستفاد منه في المجال التطبيقي ، لنتعرّف على ما يمكن أن يدخل
تحت هذا السبب من الجزئيات الجديدة ، وليساعدنا على حفظ الفروع الكثيرة المتناثرة التي تدخل في هذا الإطار.
لقد ذكرتُ ، قبل ستةوثلاثين عاماً طائفة من الضوابط لهذا السبب في رسالتي ( رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ) ، منها :

   1-  تفاهة الشيء ونزارته ، ولهذا قيل (القليل من الأشياء معفُو عنه).
2-  كثرة الشيء ، ولهذا قالوا إنّ النجاسة لا تؤثر في الماء الكثير.
3- امتداد زمنه ، وقد قدّروا الامتداد في كل شيء بحسبه.
4- شيوعه وانتشاره ، وعلى ذلك قاعدة ( ما عمّت قضيته خفّت بليته ).
5- الحاجة إليه.
6- الاضطرار إليه.
وأضيف إلى ذلك الآن :
1- عسر التخلّص منه ،كدم البراغيث والقروح ، وقيح الدَّمامل ، وذرق الطيور ، وغيرها .

   2- تكرار الشيء كعدم قضاء صلاة الحائض ، وجواز مسّ الصبي المحدِث للمصحف في التعلّم . ومنه العفو عن سؤر الطوافين والطوافات كالقطط.
3-  ما يرجع إلى السنن الإلاهيئة التي يطلقون عليها العوامل الطبيعية، كالمطر والثلج والوحل ، والريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة ، وشدّة
الحرارة وسواها من العوامل المناخية المؤثرة التي تلحق مشقة زائدة عن المعتاد .
4- الشيخوخة والحمل وغيرها مما يعود إلى وهن جسم المكلّف .

   فمثل هذه الضوابط تعين على تشخيص جزئيات العسر وعموم البلوى  ، بتحقيق مناطه فيها . وكنّا نؤكد كثيراً على توجّه الباحثين إلى بذل الجهود في
مجال الضبط والتقعيد ، مما أثر في خروج بعض الرسائل العلمية في هذا المجال، ومن آخر ما رأيته هو رسالة ( عموم البلوى ). وعلى ما ذكرنا فإنّه
من دون وضع ضوابط لما لم يضبط،فإنّ الاستفادة من القواعد تكون قليلة،وربّما لا يستطيع غيرالمتخصّص المتعمّق في الفقه ، الانتفاع منها ، ولنأخذ
على سبيل المثال قاعدة ( الضرر يزال ) فإنّ هذه القاعدة قطعيّة ، دلّت عليها نصوص كثيرة، من الكتاب والسنة. ولا يختصّ بفهمها وتطبيقها فئة دون
فئة، إذا علمت شروطها ، وشخّص فيها الضرر ، فهذه القاعدة لها ركنان هما : الضرر والإزالة ، فليس للقاعدة وجود حقيقي ، ما لم يكن هناك ضرر،
وإزالة مترتّبة على وجوده .

   ولكن ما هو الضرر ؟ وما هو مقياسه ؟ هذه مسألة تحتاج إلى بيان ، وإلى مقدّمات. فنحن نعلم أنّ الشريعة جاءت للمحافظة على الأمور الخمسة التي
هي الدين، والنفس ، والمال ، والعقل والنسب . والمصالح المطلوبة للمحافظة على هذه الأمور ليست بمرتبة واحدة ، بل هي متفاوتة ، أعلاها ما أدّى
تفويته إلى إلحاق الضرر والتلف فيها ، ويليه ما أدّى تفويته إلى مشقة ، لكنّها لا تؤدي إلى التلف ، ويليه ما هو من الأمور التحسينية والكمالية ، تسمّى
الأولى بمصطلح علماء الأصول الضروريات ، والثانية الحاجيات ، والثالثة التحسينات . ومعرفة ما يترتّب عليه الضرر في الأمور الخمسة المتقدّمة،
ليس مختصّاً بالفقيه وحده ، لكنّ إصدار الحكم قد يكون من وظيفة الفقيه . إنّ المحافظة على النفس مسألة طويلة الذيل ، فنحن نعلم أنّ الشارع وضع
أحكام القصاص في النفس والأعضاء بما هو معروف ، ولكنّ الضرر اللاحق بالنفس أو الجسم الإنساني لا يقتصر على أمثال تلك الأمور ، فهناك
أضرار مآلية ، أو غير منظورة ، قد تلحق بالنفس أو الأعضاء ، تسبّبها المأكولات من لحوم وخضروات ومعجنات وحلويات ،من المتَلاَعَب بجيناتها،
أو المزوّدة بهرمونات معيّنة ، أو الداخل في تركيبها مواد كيماوية ضارّة ، تؤثر على صحّة الإنسان ، ولو في الأَمَدِ البعيد.

   إنّ أمثال تلك الأمور إنّما يعرفها أصحاب الاختصاص كالأطباء والكيماويين وغيرهم ممّن تحقّق لهم معرفة بذلك. ومثل ذلك استعمال الدخان ، أو
السكاير والتنباك بأنواعه المختلفة . وحينئذٍ تنطبق القاعدة على أمثال هذه الأمور . ويتولّى كل فرد بشأنها ما يتعلق به ، فالفقيه يفتي بما يناسب ذلك من
الحكم ، والطبيب والكيماوي ينبّه إلى تلك الأضرار، وولي الأمر يصدر قراراته الإدارية ونظمه الرافعّة لمثل هذا الضرر . وهكذا الأمر بما يتعلّق
بالمحافظة على المال ، مما يعرفه علماء الاقتصاد الذين يقرّرون ما يضّر بالمال ، وما ينمّيه ، فإذا كان هناك نظام اقتصادي معيَّن يؤدي إلى الضرر
بالمال ، أو الكساد التجاري ، فإنّ القاعدة تقتضي رفعه واستبداله ، لأنّ الضرر يزال .. وهكذا الأمر بشأن المحافظة على العقل والنسل ، وفي مقدّمة
ذلك الدين .

   فكلّ أولئك يستفيدون من القاعدة ، ويعرفون ، عند التعرّف على الضرر ، حكم الشارع بشأنه ، ولو على الجملة.
وإضافة إلى ذلك فإنّ هذه القاعدة تسهّل مهمّة القاضي في التطبيق على كل الوقائع الجزئية ، إن تحقّق فيها المناط ، أي الضرر. فهو يحكم على من فتح
شباكاً يشرف على بيت جاره ، ويطلع منه على عوراته ، بوجوب غلقه إزالة للضرر ، ويحكم على من سلّط مجرى النجاسات من داره إلى دار جاره،

   بوجوب غلقه أو تحويله ، وعلى من جعل في بيته آلات دقّاقة تهزّ جدران مجاوريه ، وتؤثر على مبانيهم ، بوجوب رفع تلك الآلات ، وعلى من أنشأ
مطابخ أو مخابز يؤثر دخانها على جاره بناء وصحّة ونظافة ، يمنعه من ذلك ، وتصريف ذلك بالصورة التي لا تضرّ ، كما له أن يأمر من له شجرة
تدخل أغصانها في بيت جاره ، وتسدّ منافذه، وتمنع عنه الهواء والشمس بوجوب إزالة مثل ذلك الضرر.
وتطبيق هذه القاعدة واسع وشامل ، يشمل البلديات والوزارات والمؤسسات لكلّ فيما يتعلّق بشأنه ، سواء كان بعدم منح الرخص ، أو إلغائها ، أو أي
إجراء آخر.
ومن أجل أن تطبّق هذه القاعدة تطبيقاً صحيحاً وسليماً ، فإنّه لا بدّ أن تتحقّق طائفة من الشروط يمكن أن نسمّيها شروط التطبيق . لأن القواعد الفقهيّة
شأنها شأن القواعد الاستقرائية الأخرى ، لا تكون صادقة من دون قيد ولا شرط ، حتى وإن كانت العلاقة فيها سببية ، بل هي تصدق تحت شروط
وقيود معيّنة . ويبدو من تتبّع القواعد أنَّ هذا صادق حتى على القواعد المؤسسة على النصوص الشرعية ، وعلى الأمور الخاضعة للتجربة والملاحظة.
فالقاعدة أنّ الماء يغلي ويتبخّر في درجة 100م5 ، ويتجمد في درجة صفر مئوي لا تصدق إلا بشرط أن يكون الضغط المعياري 76 سم زئبق ، وعند
مستوى سطح البحر . فإذا وجدنا في ( روكي ماونتن ) ، ومدينة دنفر أنّ الماء يغلي في درجة 94م5 ، فإنّ هذا لا ينقض القاعدة ، لأنّ الضغط فيهما
هو 60 سم زئبق . وهذا يعني عدم تحقّق الشرط.
ومثل ذلك قانون العرض والطلب الاقتصادي ، فإنه إنّما يصدق تحت ظروف وشروط معيّنة. فإذا أردنا تطبيق قاعدة ( الضرر يزال ) على حالة
ضررية معيّنة ، فلا بدّ أن تتحقّق الشروط الآتية:

   1- أن يكون الضرر محقّقاً ، لا مُتَوَهّماً .
2- أن تكون إزالة الضرر متّفقة مع مقاصد الشارع ، بأن يكون فيه محافظة على الدين ، أو النفس أو المال ، أو العقل ، أو النسل.
3- أن لا يزال الضرر بمثله ، ولا بما هو أشدّ منه ، سواء كان على النفس، أو على الغير.
وهذا الشرط متضمّن للقواعد أو الضوابط المذكورة في كتب القواعد ، على أنّها من القواعد المتفرّعة عن قاعدة ( الضرر يزال ) ، والتي منها :
‌أ. الضرر الأشدّ يزال بالضرر الأخفّ.
‌ب. يختار أهون الشرّين.
‌ج. تحَملَّ الضرر الخاص لدفع الضرر العام .
‌د. إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمها بارتكاب أخفهما.
هـ. إذا اجتمع ضرران أَسْقَطَ الأصغرُ الأكبر ، أو الضرر الأكبر يدفع الضرر الأدنى.
وكلّ هذه القواعد هي صورة للشرط الثالث أي لقولهم : أن لا يزال الضرر بمثله أو بما هو أشدّ منه.
فإذا ما توّفرت هذه الشروط فإنّ لتطبيقها شروطاً أُخر ، وهي شروط لازمة لتطبيق كلّ قاعدة ، وهي:
1-  أن تتوفّر في الوقائع الشروط الخاصّة التي لا بدّ منها لانطباق القاعدة عليها. كالشروط المتقدّمة في الضرر ، إن كانت الواقعة المراد تطبيق قاعدة
(الضرر يزال) عليها ضرورية.
2-  أن لا يعارضها ما هو أقوى منها ، أو مثلها ، سواء كان دليلاً فرعياً خاصّاً معتدّاً به ، أو قاعدة فقهيّة أخرى متّفقاً عليها . فمثال الأوّل عدم انطباق

قاعدة ( الأصل في الميتات التحريم ) على السمك والجراد ، لمعارضتها النصّ الشرعي الذي أفاد حلّهما . قال e  : (أحلّت لنا ميتتان ودمان ، فأمّا
الميتتان فالحوت والجراد ، وأمَا الدمان فالكبد والطحال ) ومثال الثاني القول بلزوم اغتسال المستحاضة المتحيّرة عند كلّ صلاة ، استثناء من قاعدة
( الأصل العدم ) لدخول هذه المسألة في اصل آخر معارض لذلك ، وهو أنّ الأصل وجوب الصلاة ، ووجوب الاغتسال من الحيض ، فلم ينطبق عليها
حكم القاعدة ، أو الأصل لمعارضته بأصل آخر .
3-  أن تكون الواقعة المطلوب تطبيق القاعدة عليها خالية من الحكم الشرعي الثابت بالنصّ أو الإجماع ، أو أي دليل آخر معتدٍّ به . وفي هذه الحالة ينظر
للحكم المستفاد من تطبيق القاعدة ، فإن كان موافقاً للحكم المستفاد من النصّ أو الإجماع ، جاز تطبيق القاعدة عليه ، لأنه لا مانع من تعدّد الأدلة على
مسالة واحدة ، فيكون تقوية وإضافة تعزّز الأدلة الأخرى ، وأمّا إذا كان مخالفاً له فلا يجوز ذلك ، لكون الحكم المستفاد من تطبق القاعدة أضعف من
الحكم الثابت بالنصّ أو الإجماع. وهذا إذا كانت القاعدة ثابتة بطريق الاستقراء ، أو أيّ طريق آخر مفيد للظنّ ، وأمّا إذا كانت القاعدة نصّاً شرعياً ،
أيضاً ، فإنّه – حينئذٍ – يُلْجَأ إلى القواعد والأسس العامّة في مسألة التعارض والترجيح .
هذه بعض الأسس والضوابط التي ينبغي مراعاتها عند تطبيق أيّة قاعدة من القواعد الفقهيّة ، فيما نرى ، ولكن لا بدّ – هنا – من  التنبيه إلى أمر مهمّ،
وهو أنّه من غير المفيد في تفسير معاني ألفاظ القاعدة ، الاكتفاء بما هو موجود في معاجم اللغة أو مصطلحات العلماء ، دون ضبط عملي تطبيقي
لمعناها. توضيحاً لذلك اذكر أنّ قاعدة ( اليقين لا يزول بالشكّ ) التي هي من أعظم القواعد الفقهية ، وأكثرها شمولاً ، لا نستفيد منها ، إذا اكتفينا بأنّ
المراد من اليقين هو العلم ، أو ما هو أوسع منه ، بحيث يشمل الظنّ عند الفقهاء . وأنّ العلم عند الأصوليين والمتكلّمين هو اعتقاد الشيء بأنّه كذا ، مع
اعتقاد أنّه لا يمكن أن يكون إلاّ كذا ، اعتقاداً مطابقاً للواقع غير ممكن الزوال . وأنّ الشكّ هو تجويز أمرين لا مزيّة لأحدهما على الآخر.
إنّ الاكتفاء بمثل ذلك هو اكتفاء بالتفسير العنواني ، دون اقتدار على تطبيق القاعدة في مجالاتها المتعدّدة . وستضطرب وجهات النظر في تحديد انتماء
الجزئيات إلى القاعدة . ولكن إذا حدّدنا اليقين ، وضبطنا ما يمكن أن يُعَدّ منه بأوصاف ظاهرة محسوسة منضبطة ، أمكن التطبيق بسهولة ، وعُرِفت
انتماءات الفروع الفقهية.
إنّ الذي يتّضح من خلال استقراء القواعد والضوابط الفقهيّة ، أنّ هناك طائفة غير قليلة من الضوابط الدالة على اليقين وهي وإن لم تذكر على أنّها كذلك،
لكنّها صالحة في هذا المجال . وظهر لنا أنّ تصنيفها ضمن أنواع وأقسام محدّدة ، أمر ممكن . ومن الممكن أن نذكر فيما يأتي بعض هذه الضوابط:
أولاً : ضوابط الأحكام المستندة إلى العدم الأصلي ، أو البراءة الأصلية.
ثانياً : ضوابط الأحكام التي دلّ الشرع على ثبوتها.
ثالثاً : ضوابط الأحكام المستندة إلى إباحة المنافع ، وتحريم المضارّ.
رابعاً : ضوابط ما تحمل عليه الألفاظ والتراكيب من المعاني ، لغةً ، أو عرفاً شرعياً ، أو استعمالياً.
أمّا الضوابط المستندة إلى العدم الأصلي فهي كثيرة لا حصر لها ، وتطبيق ذلك على الوقائع الجزئية يُعَدّ من الأمور السهلة والواضحة . ومن هذه
الضوابط :
1- الأصل في الصفات العارضة العدم ، ويقابلها أنّ الأصل في الصفات الأصلية الوجود . والمراد من الصفات الأصلية ما كانت موجودة مع الشيء
فهي مقارنة له غير متأخرة عنه في الوجود . كالحياة والصحّة بالنسبة للكائنات الحيّة . فالأصل في هذه الكائنات أن توجد حيّة ، وأن تكون سليمة من
المرض ، أي اليقين فيها هو ذلك.

والمراد من الصفات العارضة ، الصفات الطارئة على الشيء ، ولم تكن مقارنة له عند وجوده ، أو أنّ طبيعته أن يوجد خالياً منها ، في أغلب أحواله.
هذا هو اليقين في هذه الصفات. وينبني على هذا أصول يقينيّة في غاية الكثرة مثل:
الأصل السلامة ، الأصل في المرأة البكارة ، والأصل في الدم الخارج من الرحم أنّه حيض لا استحاضة ، والأصل في الإنسان الحريّة ، والأصل عدم
العلم ، والأصل في المياه الطهارة ، والأصل في الأعيان الطهارة ، والأصل في الأرض وما تولد فيها من سباخ ورمال ومعادن الطهارة .. إلى آخر
ذلك من الأصول اليقينية التي لا تزول بالشك والتردّد بل تزول بيقين مثلها .
2- الأصل بواءة الذمَة . أي القاعدة ، أو الأمر المتيقن ، انتفاء المسؤوليات والالتزامات عن الذمَة ، ومن ذلك : المتهم برئ حتى تثبت إدانته ، والأصل
براءة المتّهم ، والبيّنة على المدّعي ، لأن الأصل العدم.
3- الأصل في الأفعال العدم : أي المتيقن فيها العدم . وعليها بني إذا شك هل فعل أو لا ؟ فالأصل أنّه لم يفعل ، ولو شك في القليل أو الكثير بني على
القليل ، ولو شك أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً ، بني على الثلاث ، ولو شك أنه صام أربعة أيام أو خمسة أيام بني على الأربعة ، ولو شكّ أنه سجد أولا ؟
بني على أنه لم يسجد ، هذا هو اليقين ، وعلى هذا الأصل بنيت قاعدة (لا ينسب إلى ساكت قول).
وأمّا الضوابط المبنيّة على ما دلّ الشرع على ثبوته ، فالمراد بتلك أنّ كل ما ثبت بالدليل الشرعي فهو الأمر المتيقن ، وخلافه مشكوك فيه ، وبني على
ذلك كثير من القواعد ، نحو : الأصل في المّيتات التحريم ، والأصل في المّيتات النجاسة ، والأصل في ميّتة ما لا نفس له سائلة الطهارة وغيرها.

   وأما إباحة المنافع وتحريم المضار فهما أصلان بني عليهما الكثير من الأحكام الفقهيّة ، فكلّ ما لم يرد فيه نصّ من الشارع ، ولم يدخل في أيّ من
أصوله العامّة فأنّه يؤخذ حكمه من هذين الأصلين. وأما ضوابط ما تحمل عليه الألفاظ والتراكيب في اللغة والشرع ، وعرف الاستعمال مما يشخّص
معنى اليقين فكثيرة ، أكتفي بأن أذكر بعض الضوابط والأصول في عرف اللغة مما هي من مشخّصات اليقين، منها:
1- الأصل في الكلام أنّه على الترتيب الواقع حتى يقوم دليل على التقديم أو التأخير.
2- الأصل في الكلام الإفراد حتى يقوم دليل الاشتراك.
3- الأصل في الكلام التأسيس حتى يقوم دليل التأكيد.
4- الأصل في الكلام الاستقلال في الدلالة حتى يقوم دليل الإضمار.
5- الأصل في الألفاظ عدم الترادف.
6- الأصل في الكلام الحقيقة ، لا المجاز.

   ومن مشخّصات اليقين عند الأصوليين :
1- الأصل حمل الكلام على ظاهره ولا يخرج عن ذلك إلاّ بدليل.
2- الأصل في اللفظ العام أن يدل على جميع أفراده على وجه الشمول والاستغراق ، حتى يقوم دليل التخصيص.
3- الأصل في اللفظ المطلق أن يحمل على إطلاقه حتى يقوم دليل التقييد.
4-  الأصل في الأوامر ، على رأي الجمهور ، أنها للوجوب.
5- الأصل في النواهي ، على رأي الجمهور ، أنها للتحريم.

6- الأصل في الألفاظ عدم النقل.
إلى غير ذلك من الأصول التي تمثّل اليقين الذي لا يزول بالشك ، وتهمل في مقابله الاحتمالات التي لم يعضّدها الدليل.
فمثل هذا التصّور لليقين يجعل – فيما نتصوّره – تطبيق القاعدة أسهل ، وأقرب للأذهان ، وتمكين غير المتخصّصين في الشريعة ، عند فهمهم هذه
الأصول من معرفة أحكام كثير من الوقائع ، دون البحث الكثير في بطون الكتب الفقهيّة . هذا تصوّرنا لما ينبغي أن يكون عليه فهم القواعد الفقهية
ودراستها.

   ولكنّ هنا أمراً آخر ينبغي النظر فيه ، فهل هذه القواعد الفقهية المعدودة بالمئآت هي آخر المطاف ، وتمثّل أقصى ما يمكن أن يتوصّل إليه الفقهاء ؟
الذي أظنّه أنّ هذا ليس صحيحاً ، وأنّ مجال تكوين قواعد جديدة لا يزال مفتوحاً ، وأنّه بالإمكان الإتيان بقواعد في المجالات التي لا توجد قواعد
تحكمها، من خلال تتبع الأحكام الفقهية ، في أبوابها الخاصّة ، والتعّرف على الجوانب التي لم تعالجها القواعد الفقهيّة المتوفّرة ، لسدّ مثل هذا النقص،
عن طريق استخدام مصادر تكوين القواعد ، في استقراء ، أو قياس ، أو استدلالات عقلية ، أو غير ذلك من الطرق المعتدّ بها في هذا المجال. فالفقه
الإسلامي متحّرك ، وأحكامه متجدّدة ، والتوقّف عند ما توصل إليه علماء السلف من القواعد،هوكالقول بالتوقّف عن الاجتهاد، والتعرّف على أحكام
الوقائع والنوازل ، وفي ذلك تحجيم وتحجير لدور الفقه.
وممّا لا شك فيه أنّ الحياة المعاصرة ، والدراسات العلميّة المتنوّعة ، وذات الاختصاصات المختلفة ، تدعو لمثل هذا الأمر. فلماذا لا تكون هناك قواعد
تفسيرية  ؟ وقواعد في العقود ؟ وقواعد في الأحكام الجنائية ، وقواعد في الاقتصاد ، وغير ذلك من المجالات ؟
ولكن ينبغي للعالم المتصدّي لهذا التأصيل والتقعيد ، أن ينظر فيما يأتي :
1-  المقاصد الشرعية ، وما هو من ضروريات مقاصد الشارع وما هو دون تلك الضروريات ، وما هو مكمّل لها . ليبني قواعده على أساس متين،
وغير مخالف لمقاصد الشارع ، والمصالح المبنية عليها.
2-  أن يلّم بالنصوص الشرعية الحاكمة لمسائل القاعدة المراد استنباطها، لئلا تأتي القاعدة مخالفة لنصّ الشارع.
3-  دراسة فقه الموضوع واستقراء أقوال العلماء ، وتعليلاتهم ، لإدراك الروابط بين هذه الجزئيات ، والتعرّف على روابط السببيّة ، أو الوصف
الجامع بينها.

   وإني أدعو العلماء الذين تتوفر فيهم القدرات العلمية ، وملكات الاستنباط ، أن لا يدّخروا وسعاً في تحقيق ما يتطلّع إليه جمهور العلماء ، من ذوي
الاختصاصات المختلفة ، بتقديم الفقه بقواعده الشاملة ، وفي استنباط قواعد في المجالات التي لم تشملها القواعد المخرّجة ، لسدّ مثل هذا الفراغ ، وتدارك
هذا النقص.

والله سبحانه الموفق ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،، .

(  [1]) واستثنى من ذلك دراسة لأحد الأساتذة في المغرب هو الدكتور محمد الروقي ، في كتابه (نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء ) لكنه خلط أركانها وشروطها وأطلق عليه اسم مقوّمات  القاعدة، وأدخل فيها ما ليس مقوّما – على الحقيقة – أي ما ليس ركناً ولا شرطاً .

aaaa